أتى الكتاب في أربعة أجزاء، عن دار " النهار" اللبنانية، ولن أعرض اليوم لشخصية المؤلف " يوسف الحكيم " والتي مكانها صفحة "وجوه من وطني" في الأعداد المقبلة، بل سأغتنم الفرصة لعرضٍ لصاحب النهار الدار التي نشرت كتابنا اليوم، في تحيةٍ لروح عميد الصحافة العربية " غسان تويني " وإن أتت متأخرة...
تحت عنوان "رحل.. فجر النهار"، أعلنت صحيفة النهار- والسوريون يعون جيداً قيمة المطبوعة المذكورة والتي يتبادلونها خفيةً بسبب حظرها المتكرر- التي تملكها عائلة غسان تويني على صفحتها الأولى رحيل "عملاق الصحافة اللبنانية والعربية وعميد النهار ومعلم أجيالها المتعاقبة منذ تولى مبكراً مسؤولياته فيها وباني مجدها وصانع ألق الكلمة والفكر النائب والوزير والسفير والدبلوماسي وصانع الرؤساء والعهود والسياسات في زمن مجد لبنان ومجد الرجال".
ولد تويني عام 1926 وحصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1945، وفي عام 1947 حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة هارفارد في الولايات المتحدة. وعمل محاضراً في العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت بين عامي 1947 و1948.
بدأ غسان تويني عمله الصحافي وهو في أوائل العشرينات في جريدة النهار التي أسسها والده العام 1933. وما لبث أن دخل المجال السياسي وأصبح عضواً في البرلمان وكان في الخامسة والعشرين من عمره. ثم شغل مناصب وزارية مهمة وكان مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في أوقات عصيبة تخللها خصوصاً اجتياحان إسرائيليان، وينظر إلى غسان تويني على نطاق واسع على أنه "عراب" القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 1978 والذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان.
فقد تويني ابنته نايلة وهي في السابعة بمرض السرطان، وما لبثت أن لحقت بها زوجته الشاعرة "ناديا تويني "بالمرض نفسه، بعد ذلك بسنوات قضى نجله مكرم في حادث سيارة في فرنسا. ووصف غسان تويني غيابه ب"الكارثة الثالثة في حياته"، الى أن كانت "كارثة" مقتل جبران، ولده الأخير. حينها قال تويني "لم يتركوا لي منه قطعة من جبهته أقبلها قبل أن أواريه الثرى" كما نقل عنه حينها الكاتب اللبناني "سمير عطا الله" ورغم كل الألم، وافق غسان تويني، تحت ضغط محبيه والأوساط الشعبية المؤيدة لعائلته على الحلول محل ابنه تحت قبة البرلمان، مشيراً إلى أنها المرة الأولى التي يخلف فيها الوالد أولاده.
مارس تويني السياسة المترفعة عن النزاع على السلطة، السياسة التي تتمحور حول الخير العام والتي يوجد بينها وبين الثقافة ارتباط حميم، في أي اجتماع حكومي كان تويني اللولب والنجم، إنه رجل الساعات الحرجة والمهمات الكبيرة في أي حكومة كان قادراً على تحويل وزارته أياً كانت أهم من كل الوزارات، كان مستعداً لأن يكون نائباً ليصير مجلس النواب في نظره سلطةً أكبر من سلطة الحكومة، هو تكوين فريد يجمع فكر شارل مالك وجاذبية كميل شمعون، ينظر إلى بعيد فتستهويه ثقافة اليونان وتشده عظمة روسيا، يعتد بنسبٍ عربي عريق دون أن يطغى على لبنانيته.
لغسان تويني مؤلفات كثيرة أبرزها "اتركوا شعبي يعيش" وهو عنوان خطاب ألقاه في الأمم المتحدة خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، و"حرب من أجل الآخرين".
ويلقب تويني في لبنان بأنه "عملاق الصحافة العربية" و"عميد الصحافة اللبنانية".
غسان تويني.... طوبى لك....
بالعودة إلى كتابنا اليوم والذي أتى في أربع أجزاء، الجزء الأول وتحت عنوان " سوريا والعهد العثماني " يتضمن موجزاً عن آخر أدوار الدولة العثمانية، وتفصيلاً عن التنظيم الإداري الذي تم في أيام السلطان عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين الحكم المطلق، وعن حوادث ما بعد الدستور الذي أعلن سنة 1908، يضاف إليها مذكرات الكاتب المكتوبة في حينها عن سورية عامةً وعن اللاذقية وطرابلس وفلسطين خاصةً.
الدور الأول "1300-1579" هو دور التأسيس والفتوحات المتوالية وقد بلغت فيه الدولة العثمانية، بعد مئتين وخمسين سنة من تأسيسها، الذروة في العظمة واتساع الحدود وذلك في عهد السلطان سليمان القانوني، أما الاستيلاء على سوريا فقد تم على يد السلطان سليم الأول سنة1516 بعد قهره للمماليك، فكان هذا التاريخ بداية الحكم العثماني في سوريا.
الدور الثاني " 1581-1839"وهو دور الانحطاط وامتد مئتين وسبعين سنة وانتهى في عهد السلطان محمود الثاني.
الدور الثالث، وهو دور التنظيم وامتد من عام " 1839-1908 " وقد امتد من عهد السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني حتى إعلان الدستور عام 1908، وامتاز بظهور التنظيمات الخيرية والبدء بتطبيقها.
الدور الرابع وهو دور الحكم الدستوري الذي لم يدم سوى عشر سنين ثم قضي عليه بانتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918
تضمن الجزء الثاني تفصيلاً وافياً عن " بيروت ولبنان زمن آل عثمان " تبعاً لما جادت به وظيفة الكاتب في حينه "رئاسة القلم التركي لحكومة جبل لبنان المستقل إدارياً " من تجارب ومعلومات شملت أحداث الحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1918 بجلاء الترك ودولتهم العثمانية نهائياً عن سوريا ولبنان، كما شمل موجزاً عن تاريخ لبنان منذ استيلاء آل عثمان على سوريا عام 1516 مع تفصيل عن نظامه الخاص وحكامه وحياة شعبه في ميداني السياسة والاجتماع، كما تضمن هذا الجزء سرداً لحوادث الإرهاب في عهد جمال باشا قائد الجيش المطلق الصلاحية في كامل المنطقة السورية الممتدة من حدود الأناضول شمالاً حتى حدود مصر جنوباً مع شبه الجزيرة العربية، إضافة لاستعراض نظام المتصرفين الذين عينتهم الدولة العثمانية على مقتضى نظام الولايات وحتى جلاء جيوشها وحكامها واحتلال الجيوش الحليفة البريطانية والفرنسية عام 1918. ومن المثير في هذا الجزء تتبع سير أسرٍ بكاملها وانقراض بعضها واستمرار الآخر لاعباً قوياً على الساحة اللبنانية وحتى الإقليمية.
يحوي الجزء الثالث " سوريا وفجر الاستقلال " موجزاً عن أواخر العهد العثماني وجلائه عن جميع الأقطار العربية وتفصيلاً عن الاستقلال السوري المعروف بالعهد الفيصلي، وفيه نودي بالأمير الشريف فيصل ملكاً على سوريا وجهود السوريين المتواصلة لنيل استقلالهم استقلالاً تاماً مروراً بدخول الجيش الفرنسي دمشق حرباً بعد معركة ميسلون والتي بدأ في إثرها الانتداب على سوريا، ويبتدأ الحكيم هذا الجزء بسردٍ لإرهاصات الثورة العربية الكبرى موضحاً أسبابها ليصل إلى إعلان الشريف حسين الجهاد المقدس على الترك " أعداء العرب ومغتصبي الخلافة " حسب تعبيره والاستيلاء على مكة والطائف ثم المدينة المنورة، ليصار إلى إعلان الحسين ملكاً على البلاد العربية، ويتوجه ابنه فيصل، بمرافقة الجيش البريطاني لدخول دمشق... ويروي صوراً مؤثرة لانسحاب الجيش التركي والتعرض الذي واجهته شراذمه أثناء تراجعها من هجمات الوطنيين في كلٍ من دمر والبقاع ونواحي حماه وتنكيلهم أشد تنكيل، ثأراً لدماء الشهداء المسفوكة بأمر جمال باشا.
ثم يأتي الجزء الرابع وفيه تفصيلٌ عن عهد الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان وانتهائه، بعد خمسة وعشرين عاماً باستقلال كلٍ منهما استقلالاً تاماً على أساس حكمٍ جمهوري يرد تفصيله في البلدين. بدءاً من دخول الأمير فيصل دمشق مروراً بانعقاد المؤتمر السوري عام 1920 الذي نادى بفيصل ملكاً على سوريا، في حفلٍ حضره جميع قناصل الدول ومن ثم الاحتلال الفرنسي لغرب سوريا وتقسيمه ثلاث حكومات حكومة لبنان الكبير، وحكومة العلويين وحكومة لواء اسكندرون، ليصل الحكيم إلى إنذار غورو الشهير وملحمة احتلال الداخل السوري، وتجزئته أيضاً إلى دويلات، من ثم إعادة توحيد البلاد واندلاع الثورة السورية الكبرى، مستعرضاً لحكومات صبحي بركات، الداماد أحمد نامي، حكومة الشيخ تاج الدين الحسني، ثم إعلان النظام الجمهوري وانتخاب محمد علي العابد رئيساً للجمهورية، ليبدأ عهد التفاهم بين فرنسا والكتلة الوطنية، وقضية لواء اسكندرون، حكومة المديرين، اغتيال الدكتور الشهبندر، سوريا أثناء الحرب العالمية الثانية.. ليصل المؤلف إلى أواخر عهد الانتداب.
الجزء الخامس من الكتاب تحت عنوان " سوريا المستقلة "يتحدث عن الانقلابات والتطورات في الحياة السياسية السورية حتى انقلاب 8 آذار عام 1963 وتسلم حزب البعث للسلطة في سوريا، لكن الكلام عن الجزء الخامس يبقى في انتظار نشره إذ يبدو أن الظرف السياسي في العام التالي لاستلام البعث السلطة في سوريا عام صدور الكتاب لم يسمح بصدور الجزء الخامس، فيختم الحكيم الجزء الرابع بالعبارة التالية " أما الجزء الخامس وهو الأخير من ذكرياتي، فسوف يقدم للنشر في أول فرصة مناسبة، بعون الله تعالى " ويبقى أمر الجزء الخامس في عهدة ورثة الحكيم، لنشر الجزء المذكور وإفادة القراء منه..
تتأتى أهمية مذكرات الحكيم أنه اعتاد تدوينها منذ شبابه فأتت ناصعةً صادقة معبرة عن زمانها دون أن يدخل فيها هوىً أو تحيز هو حال المذكرات التي تستكتب بعد تقدم صاحبها بالسن، إضافةً إلى المعلومات والوثائق التاريخية التي وثقها المؤلف قبل الطباعة عام 1964 وتنبع أهميتها أيضاً على اعتبارها تأريخاً مشتركاً للبلدين التوأمين سوريا ولبنان في مختلف العهود "العثماني، الفيصلي، الانتدابي، الاستقلالي "، كما تنبع أهميتها من أن الحكيم أمضى حياته متنقلاً بين القضاء والإدارة والسياسة، لم ينتسب لأي حزب ولم يتأثر بتبدل الحكومات ولم يرتبط بصلةٍ مع أي سلطةٍ أجنبية.
وقد اعتمد الحكيم الأسلوب الأكاديمي الغربي في السرد التاريخي، بعيداً عن استطراد الساسة والآراء الشخصية والجوانب النفسية والعاطفية وهي الميزات التي تعطي لكتب المذكرات نكهةً خاصة، لا نجدها في كتب التاريخ، ولم يفلح الحكيم بخلقها والسبب هو الحرص الشديد على الموضوعية والتوثيق، بدقةٍ تفوق بعض المؤرخين...