دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية
تأليف: الدكتور ثريا شاهين و ترجمة الدكتور محمد حرب
طباعة دار المنارة للنشر والتوزيع
ـــــــــــــ
كتب البطريرك جورجيوس في رسالته إلى القيصر الكسندر يقول فيها: (من المستحيل سحق وتدمير الأتراك العثمانيين بالمواجهة العسكرية, لأنهم ثوريون جدا ومقاومون وواثقون بأنفسهم, ومصدر هذه الخصال ارتباطهم بدينهم, ورضاهم بقضاء الله وقدره وتشبعهم بهذه العقيدة, إضافة لطاعتهم لرؤسائهم, ولذا:
1- لا بد من كسر شعور الطاعة عندهم تجاه سلطانهم وقادتهم, وتحطيم الروح المعنوية والروابط الدينية عندهم, وأقصر الطرق لتنفيذ ذلك تعويدهم التعايش مع أفكار وسلوكيات غربية غريبة لا تتواءم مع تراثهم.
2- إغراء الأتراك العثمانيين بقبول المساعدات الخارجية التي يرفضونها, حتى لو أدى ذلك لإعطائهم قوة وقدرة ظاهريين لمدة محدودة).
بهذه الرسالة بدأ الكتاب الذي بين أيدينا, الذي يظهر تسامح المسلمون عموما ومنهم العثمانيون مع أهل الديانات الأخرى, والذي يشهد به الأعداء قبل الأصدقاء, إلا أن النصارى واليهود عضوا اليد التي أحسنت إليهم.
لقد قال التاريخ كلمته وأشار بأصابع الاتهام إلى مجرمي الحرب في كل حقبة تاريخية, فقادة الحروب الصليبية وإن حاولوا إظهارها بمظهر ديني لحماية الحجاج المسيحيين إلى مهد المسيح كما تدعي, إلا أن دراسة تفاصيل سير الحملات وأعمالها الواقعية يظهر بوضوح الأطماع الاستعمارية.
والكتاب الذي بين أيدينا في الحقيقة رسالة دكتوراة تركية نال بها ثريا شاهين درجة الدكتوراة في الإلهيات من جامعة اسطنبول, وقد ترجم الدكتور محمد حرب الجزء التاريخي المتعلق بدور الكنيسة بهدم الدولة العثمانية.
في التمهيد أظهر المؤلف التسامح العثماني مع الكنيسة, والذي بدأ مع الفتح الإسلامي للقسطنطينية, فقد أمر السلطان محمد الفاتح بإجراء انتخابات لاختيار بطريرك جديد, فاختاروا (جورجيوس سكولاريوس) فمنحه السلطان الفاتح الحق بإدارة شؤون النصارى روحيا ومذهبيا, بل تجاوزت صلاحياته الحدود لتصل إلى مساواته تماما مع منصب الوزير العثماني, وكان تحت يده مجلس شعب أيضا.
لقد توارث سلاطين بني عثمان إعطاء هذه الصلاحيات للروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية, وكانت لهم الاستقلالية الكاملة بإدارة مدارسهم, وحرية مخاطبة الديوان السلطاني متى أرادوا وبأي شأن أو موضوع, إلى أن أصبحت البطريركية (دولة داخل الدولة) بل نالوا من السلطة والنفوذ ما لم ينالوه في أعظم عهود بيزنطة النصرانية قوة.
ومع أن المسؤولية على قدر الحرية الممنوحة إلا أن الكنيسة استغلت التسامح العثماني رغم قسم البطريرك أمام السلطان على أن (يظل مخلصا للسلطان وأن ينفذ قوانين الدولة العثمانية ويحترمها) إلا أن الكنيسة والبطريرك نسيا كل ذلك, بل وانشغلوا بالسياسية عن واجبهم الديني.
لقد استغلت الكنيسة الحصانة الممنوحة لها وعدم التدخل البتة بشؤونها لحبك المكائد والخيانات, من خلال إبراز أفكار الانفصال عن الدولة العثمانية والتسبب في تجزئتها وانهيارها بعد أن كانت موحدة طوال ستة قرون من الزمان.
وقد لعبت الكنيسة دورا بارزا في هدم الدولة العثمانية, حيث استغلت التسامح الكبير بترميم وبناء الكنائس في عهد مصطفى فاضل باشا لتتوسع بذلك, إلى درجة شاع فيها القول: (لقد أقام الوزير العثماني مصطفى فاضل كنائس أكثر مما أقام جوستنيانوس) الأمر الذي أدى إلى زيادة الفعاليات الثقافية وغير الثقافية داخل تلك الكنائس, مما أدى بدوره إلى هدم الدولة العثمانية.
بعد هذه النقاط السابقة بدأ المؤلف بالتركيز على ما يسمى بمبدأ (اليونان الكبرى) وهو إيديولوجية أو مفهوم نصراني, يهدف إلى إحياء الامبراطورية الرومانية الشرقية وإقامة دولة اليونان الكبرى في الشرق الأدنى, مع عدم وجود أي علاقة في الحقيقة بين اليونان والدولة البيزنطية.
لقد عثرت الدولة العثمانية في البطريركية ما يسمى (بالكتاب الأسود) والذي يظهر بوضوح حدود دولة الروم اليونانية أو (اليونان الكبرى) التي يتصور النصارى قيامها مستقبلا, ورغم ذلك أعطى العثمانيون ذلك التسامح الكبير مع الكنيسة, والذي بدأ معه فعليا تاريخ البدء بتنفيذ مخطط (اليونان الكبرى), حيث أصبح البطريرك في اسطنبول الممثل البيزنطي الحقيقي.
لقد كانت أولى خطوات الوصول إلى دولة (اليونان الكبرى) العمل على ترويم حقيقي لشعوب البلقان, واخذت الكنيسة تعمل على أن يكون هناك وطن يوناني حقيقي يمتد من الموره حتى الكريات, كما ركزت الكنيسة منذ فتح القسطنطينية على تنظيم الروم تحت ستار التعليم وأداء الطقوس الدينية.
لقد كان جهل المسلمين باللغة الرومية واللغات الأوربية سببا مهما في عدم إشراف الدولة العثمانية على المدارس الأجنبية, والتي كانت تبعث الأمل في نفوس طلابها بإحياء دولة (اليونان الكبرى), وقد أسند الإشراف على هذه المدارس إلى الروم الموالين للكنيسة.
كما كان لعمل كثير من الروم في الأعمال المالية كالضرائب وغيرها, إضافة لعملهم في الديوان السلطاني ككتبة دورا بارزا في التغلغل الرومي بالدولة العثمانية, ومن ثم سهولة هدمها من الداخل فيما بعد.
وفي عام 1814 أسست الجمعية السرية في أوديسا بهدف خدمة مبدأ إقامة دولة (اليونان الكبرى) من بعض التجار على أن يعين الرئيس فيما بعد, واتخذوا من اسطنبول مقرا لهم, ولم يمض عام 1818 إلا وأعضاء هذه الجمعية لم تترك روميا إلا وانضم إليها, بما في ذلك أعضاء البطريركية الأرثوذكسية في اسطنبول, ثم توجت الجمعية بانضمام الجنرال الكساندري آل إيبيلاندي ناظرا عاما لها.
رأى إيبيلاندي –لتحقيق وإتمام خطته– أن يقوم بإنشاء جمعية سرية أخرى في مقر البطريركية باسطنبول, وتعيين المشهورين من رجال الكنيسة رؤساء للجمعية, وتأسيس شركات تجارية لتأمين مصدر مالي للجمعية السرية, والعمل على تأمين المساعدة من الدول الكبرى.
وبما أنه في كل دولة رجال مخلصون متيقظون فقد كانت أولى أعمال الكنيسة القضاء عليهم, كما فعلوا مع علي باشا الذي كان يتعقب كل نشاط الروم السري, والذي كان وزيرا في يانيا والمناطق المجاورة لها.
وفي 12 فبراير عام 1821م بدأ إيبيلاندي تمرده في البلقان والبغدان والذي ما لبث أن قمع ولجأ الأخير للنمسا, وأشرفت البطريركية على العمل السري للجمعية, وبعد فترة هدوء قصيرة عاد التمرد بصبغة دينية هذه المرة, واستولى المتمردون على الموره كلها تقريبا.
وفي عهد السلطان محمود الثاني تم مداهمة البطريركية, وتم العثور على الوثائق التي تثبت تورط القساوسة في عصيان وتمرد الموره, ولم ينكر البطريرك جورجيرنيوس ذلك, فتم عزله من منصبه ثم إعدامه, وكان قبل إعدامه أرسل رسالة للقيصر الروسي الكسندر التي ذكرناها في بداية هذه القراءة.
وبعد إبداء البطريرك الجديد الندم على ما سبق تم إصدار العفو عن كل من أظهر ندمه من النصارى واستردوا أملاكهم, ثم قدم البطريرك لائحة للعفو عن المذنبين الروم ومعاملتهم بتسامح الإسلام المعروف, فتم العفو عنهم إن تخلوا عن التمرد وأظهروا الطاعة, ورغم كل ذلك استمر التمرد والخيانة والعصيان.
وفي 15 يناير عام 1822 تم الإعلان عن استقلال اليونان عن الدولة العثمانية, بتخطيط البطريكية عبر الجمعية السرية, وبمساعدة الدول الأجنبية, فاستعانت الدولة العثمانية بمحمد علي باشا لقمع التمرد, فوافق الأخير بشرط ضم كريت والموره إليه.
وحين أوشكت المعركة على الانتهاء لصالح محمد علي تدخلت الدول الأجنبية –روسيا وانكلترا وفرنسا– وفرضت بروتوكول (بطرسبرج) عام 1827 والذي ينص على استقلال اليونان ذاتيا على أن تتبع للدولة العثمانية بدفع الضريبة مع إخراج الأتراك المسلمين منها, وقد رفضت الدولة العثمانية ذلك, فما كان من الدول الأجنبية إلا أن غدرت بالأسطول العثماني ودمرته, مما قلب موازين القوى لصالح الدول الأجنبية, في حادثة اشتهرت (بكارثة نوارين), وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية, التي اضطرت للتوقيع على بروتوكول بطرسبرج واستقلال اليونان في 14 أغسطس عام 1829.
تابع النصارى حلمهم بإنشاء فكرة دولة اليونان الكبرى حين سعى (فنزيلوس) رئيس الوزراء اليوناني عام 1909 لتأسيس إتحاد مع البلغار والصرب والرومان في البلقان, ولم يجد طريقا لتهيئة الأجواء لذلك إلا من خلال البطريركية في اسطنبول, التي ساهمت بخسارة الدولة العثمانية في عام 1913 لكثير من أراضيها لحساب الصرب واليونان.
لقد تحولت البطريركية في اسطنبول إلى أداة تأتمر بأوامر (فنزيلوس) رئيس وزراء اليونان, حتى قال الأخير: (من الواجب على البطريركية أن تأتمر بأوامر اليونان, وبهذه الصورة سيكون للبطريكية المتحدة دور في غاية العظمة والأهمية في القضايا القومية في الأيام التالية) وقد فعلت ذلك فعلا حين انتهز القساوسة فرصة هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى, فقطعت علاقتها بالحكومة العثمانية, وعلقت عام 1919 علم بيزنطة وكأنها تعلن استقلالها, وأخذت بالعمل ضد العثمانيين جهارا.
قدم المؤلف نماذج من الوثائق التي تؤكد دعم البطريركية لفكرة دولة اليونان الكبرى, وأعمال العنف والإرهاب التي قام بها اليونانيون والأروام المحليون في كل من تمردات الموره وحرب البلقان, والشرور والرذائل التي ارتكبوها, من السلب والتدمير والمذابح والاعتداء على الأعراض وتحقير المقدسات.
وللتأكيد على مراوغة النصارى ومخادعتهم الدائمة باسم الدين, ختم المؤلف كتابه بملحق عن المقابلة التي أجرتها مجلة الإعلام الإسلامي مع الداعية الإسلامي ورئيس وفد المملكة العربية السعودية في لقاءات (الحوار بين الإسلام والمسيحية) التي عقدت في الفاتيكان عام 1965م.
تأليف: الدكتور ثريا شاهين و ترجمة الدكتور محمد حرب
طباعة دار المنارة للنشر والتوزيع
ـــــــــــــ
كتب البطريرك جورجيوس في رسالته إلى القيصر الكسندر يقول فيها: (من المستحيل سحق وتدمير الأتراك العثمانيين بالمواجهة العسكرية, لأنهم ثوريون جدا ومقاومون وواثقون بأنفسهم, ومصدر هذه الخصال ارتباطهم بدينهم, ورضاهم بقضاء الله وقدره وتشبعهم بهذه العقيدة, إضافة لطاعتهم لرؤسائهم, ولذا:
1- لا بد من كسر شعور الطاعة عندهم تجاه سلطانهم وقادتهم, وتحطيم الروح المعنوية والروابط الدينية عندهم, وأقصر الطرق لتنفيذ ذلك تعويدهم التعايش مع أفكار وسلوكيات غربية غريبة لا تتواءم مع تراثهم.
2- إغراء الأتراك العثمانيين بقبول المساعدات الخارجية التي يرفضونها, حتى لو أدى ذلك لإعطائهم قوة وقدرة ظاهريين لمدة محدودة).
بهذه الرسالة بدأ الكتاب الذي بين أيدينا, الذي يظهر تسامح المسلمون عموما ومنهم العثمانيون مع أهل الديانات الأخرى, والذي يشهد به الأعداء قبل الأصدقاء, إلا أن النصارى واليهود عضوا اليد التي أحسنت إليهم.
لقد قال التاريخ كلمته وأشار بأصابع الاتهام إلى مجرمي الحرب في كل حقبة تاريخية, فقادة الحروب الصليبية وإن حاولوا إظهارها بمظهر ديني لحماية الحجاج المسيحيين إلى مهد المسيح كما تدعي, إلا أن دراسة تفاصيل سير الحملات وأعمالها الواقعية يظهر بوضوح الأطماع الاستعمارية.
والكتاب الذي بين أيدينا في الحقيقة رسالة دكتوراة تركية نال بها ثريا شاهين درجة الدكتوراة في الإلهيات من جامعة اسطنبول, وقد ترجم الدكتور محمد حرب الجزء التاريخي المتعلق بدور الكنيسة بهدم الدولة العثمانية.
في التمهيد أظهر المؤلف التسامح العثماني مع الكنيسة, والذي بدأ مع الفتح الإسلامي للقسطنطينية, فقد أمر السلطان محمد الفاتح بإجراء انتخابات لاختيار بطريرك جديد, فاختاروا (جورجيوس سكولاريوس) فمنحه السلطان الفاتح الحق بإدارة شؤون النصارى روحيا ومذهبيا, بل تجاوزت صلاحياته الحدود لتصل إلى مساواته تماما مع منصب الوزير العثماني, وكان تحت يده مجلس شعب أيضا.
لقد توارث سلاطين بني عثمان إعطاء هذه الصلاحيات للروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية, وكانت لهم الاستقلالية الكاملة بإدارة مدارسهم, وحرية مخاطبة الديوان السلطاني متى أرادوا وبأي شأن أو موضوع, إلى أن أصبحت البطريركية (دولة داخل الدولة) بل نالوا من السلطة والنفوذ ما لم ينالوه في أعظم عهود بيزنطة النصرانية قوة.
ومع أن المسؤولية على قدر الحرية الممنوحة إلا أن الكنيسة استغلت التسامح العثماني رغم قسم البطريرك أمام السلطان على أن (يظل مخلصا للسلطان وأن ينفذ قوانين الدولة العثمانية ويحترمها) إلا أن الكنيسة والبطريرك نسيا كل ذلك, بل وانشغلوا بالسياسية عن واجبهم الديني.
لقد استغلت الكنيسة الحصانة الممنوحة لها وعدم التدخل البتة بشؤونها لحبك المكائد والخيانات, من خلال إبراز أفكار الانفصال عن الدولة العثمانية والتسبب في تجزئتها وانهيارها بعد أن كانت موحدة طوال ستة قرون من الزمان.
وقد لعبت الكنيسة دورا بارزا في هدم الدولة العثمانية, حيث استغلت التسامح الكبير بترميم وبناء الكنائس في عهد مصطفى فاضل باشا لتتوسع بذلك, إلى درجة شاع فيها القول: (لقد أقام الوزير العثماني مصطفى فاضل كنائس أكثر مما أقام جوستنيانوس) الأمر الذي أدى إلى زيادة الفعاليات الثقافية وغير الثقافية داخل تلك الكنائس, مما أدى بدوره إلى هدم الدولة العثمانية.
بعد هذه النقاط السابقة بدأ المؤلف بالتركيز على ما يسمى بمبدأ (اليونان الكبرى) وهو إيديولوجية أو مفهوم نصراني, يهدف إلى إحياء الامبراطورية الرومانية الشرقية وإقامة دولة اليونان الكبرى في الشرق الأدنى, مع عدم وجود أي علاقة في الحقيقة بين اليونان والدولة البيزنطية.
لقد عثرت الدولة العثمانية في البطريركية ما يسمى (بالكتاب الأسود) والذي يظهر بوضوح حدود دولة الروم اليونانية أو (اليونان الكبرى) التي يتصور النصارى قيامها مستقبلا, ورغم ذلك أعطى العثمانيون ذلك التسامح الكبير مع الكنيسة, والذي بدأ معه فعليا تاريخ البدء بتنفيذ مخطط (اليونان الكبرى), حيث أصبح البطريرك في اسطنبول الممثل البيزنطي الحقيقي.
لقد كانت أولى خطوات الوصول إلى دولة (اليونان الكبرى) العمل على ترويم حقيقي لشعوب البلقان, واخذت الكنيسة تعمل على أن يكون هناك وطن يوناني حقيقي يمتد من الموره حتى الكريات, كما ركزت الكنيسة منذ فتح القسطنطينية على تنظيم الروم تحت ستار التعليم وأداء الطقوس الدينية.
لقد كان جهل المسلمين باللغة الرومية واللغات الأوربية سببا مهما في عدم إشراف الدولة العثمانية على المدارس الأجنبية, والتي كانت تبعث الأمل في نفوس طلابها بإحياء دولة (اليونان الكبرى), وقد أسند الإشراف على هذه المدارس إلى الروم الموالين للكنيسة.
كما كان لعمل كثير من الروم في الأعمال المالية كالضرائب وغيرها, إضافة لعملهم في الديوان السلطاني ككتبة دورا بارزا في التغلغل الرومي بالدولة العثمانية, ومن ثم سهولة هدمها من الداخل فيما بعد.
وفي عام 1814 أسست الجمعية السرية في أوديسا بهدف خدمة مبدأ إقامة دولة (اليونان الكبرى) من بعض التجار على أن يعين الرئيس فيما بعد, واتخذوا من اسطنبول مقرا لهم, ولم يمض عام 1818 إلا وأعضاء هذه الجمعية لم تترك روميا إلا وانضم إليها, بما في ذلك أعضاء البطريركية الأرثوذكسية في اسطنبول, ثم توجت الجمعية بانضمام الجنرال الكساندري آل إيبيلاندي ناظرا عاما لها.
رأى إيبيلاندي –لتحقيق وإتمام خطته– أن يقوم بإنشاء جمعية سرية أخرى في مقر البطريركية باسطنبول, وتعيين المشهورين من رجال الكنيسة رؤساء للجمعية, وتأسيس شركات تجارية لتأمين مصدر مالي للجمعية السرية, والعمل على تأمين المساعدة من الدول الكبرى.
وبما أنه في كل دولة رجال مخلصون متيقظون فقد كانت أولى أعمال الكنيسة القضاء عليهم, كما فعلوا مع علي باشا الذي كان يتعقب كل نشاط الروم السري, والذي كان وزيرا في يانيا والمناطق المجاورة لها.
وفي 12 فبراير عام 1821م بدأ إيبيلاندي تمرده في البلقان والبغدان والذي ما لبث أن قمع ولجأ الأخير للنمسا, وأشرفت البطريركية على العمل السري للجمعية, وبعد فترة هدوء قصيرة عاد التمرد بصبغة دينية هذه المرة, واستولى المتمردون على الموره كلها تقريبا.
وفي عهد السلطان محمود الثاني تم مداهمة البطريركية, وتم العثور على الوثائق التي تثبت تورط القساوسة في عصيان وتمرد الموره, ولم ينكر البطريرك جورجيرنيوس ذلك, فتم عزله من منصبه ثم إعدامه, وكان قبل إعدامه أرسل رسالة للقيصر الروسي الكسندر التي ذكرناها في بداية هذه القراءة.
وبعد إبداء البطريرك الجديد الندم على ما سبق تم إصدار العفو عن كل من أظهر ندمه من النصارى واستردوا أملاكهم, ثم قدم البطريرك لائحة للعفو عن المذنبين الروم ومعاملتهم بتسامح الإسلام المعروف, فتم العفو عنهم إن تخلوا عن التمرد وأظهروا الطاعة, ورغم كل ذلك استمر التمرد والخيانة والعصيان.
وفي 15 يناير عام 1822 تم الإعلان عن استقلال اليونان عن الدولة العثمانية, بتخطيط البطريكية عبر الجمعية السرية, وبمساعدة الدول الأجنبية, فاستعانت الدولة العثمانية بمحمد علي باشا لقمع التمرد, فوافق الأخير بشرط ضم كريت والموره إليه.
وحين أوشكت المعركة على الانتهاء لصالح محمد علي تدخلت الدول الأجنبية –روسيا وانكلترا وفرنسا– وفرضت بروتوكول (بطرسبرج) عام 1827 والذي ينص على استقلال اليونان ذاتيا على أن تتبع للدولة العثمانية بدفع الضريبة مع إخراج الأتراك المسلمين منها, وقد رفضت الدولة العثمانية ذلك, فما كان من الدول الأجنبية إلا أن غدرت بالأسطول العثماني ودمرته, مما قلب موازين القوى لصالح الدول الأجنبية, في حادثة اشتهرت (بكارثة نوارين), وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية, التي اضطرت للتوقيع على بروتوكول بطرسبرج واستقلال اليونان في 14 أغسطس عام 1829.
تابع النصارى حلمهم بإنشاء فكرة دولة اليونان الكبرى حين سعى (فنزيلوس) رئيس الوزراء اليوناني عام 1909 لتأسيس إتحاد مع البلغار والصرب والرومان في البلقان, ولم يجد طريقا لتهيئة الأجواء لذلك إلا من خلال البطريركية في اسطنبول, التي ساهمت بخسارة الدولة العثمانية في عام 1913 لكثير من أراضيها لحساب الصرب واليونان.
لقد تحولت البطريركية في اسطنبول إلى أداة تأتمر بأوامر (فنزيلوس) رئيس وزراء اليونان, حتى قال الأخير: (من الواجب على البطريركية أن تأتمر بأوامر اليونان, وبهذه الصورة سيكون للبطريكية المتحدة دور في غاية العظمة والأهمية في القضايا القومية في الأيام التالية) وقد فعلت ذلك فعلا حين انتهز القساوسة فرصة هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى, فقطعت علاقتها بالحكومة العثمانية, وعلقت عام 1919 علم بيزنطة وكأنها تعلن استقلالها, وأخذت بالعمل ضد العثمانيين جهارا.
قدم المؤلف نماذج من الوثائق التي تؤكد دعم البطريركية لفكرة دولة اليونان الكبرى, وأعمال العنف والإرهاب التي قام بها اليونانيون والأروام المحليون في كل من تمردات الموره وحرب البلقان, والشرور والرذائل التي ارتكبوها, من السلب والتدمير والمذابح والاعتداء على الأعراض وتحقير المقدسات.
وللتأكيد على مراوغة النصارى ومخادعتهم الدائمة باسم الدين, ختم المؤلف كتابه بملحق عن المقابلة التي أجرتها مجلة الإعلام الإسلامي مع الداعية الإسلامي ورئيس وفد المملكة العربية السعودية في لقاءات (الحوار بين الإسلام والمسيحية) التي عقدت في الفاتيكان عام 1965م.